قهوة المثقفين ” أقراء فأمه لاتقرأ ….هي بالفعل أمه مهزومة “
تتميز الشعوب العربية، بالإضافة إلى أنظمتها أيضاً، وخصوصاً في السنوات الأخيرة، بالتفنن في اختراع الشعارات فارغة المضمون. فخلال الستين سنة الماضية امتلئت صفحات التاريخ العربي بشعارات لا أول لها ولا آخر، عاملها المشترك هو فراغ مضمونها من أي معنى وفشلها الذريع في بلورتها على أرض الواقع. بل حتى المسميات هي مخادعة، فلا مسمى (الجمهورية) يعكس واقع دولة، ولا (الديموقراطية) تعكس حرية، ولا (الحرية) تعكس تسامحاً وقبولاً للآخر المختلف، ولا (البرلمان) يعكس ممارسة شعبية، ولا (الدولة) تعكس مفهوماً معاصراً، ولا (الاشتراكية) تعكس فهماً ناضجاً، ولا (القومية) عكست قوة وانتصارات، ولا (التحضر والتمدن) عكست تفاعل عام حقيقي، ولا حتى (العادات والتقاليد والتراث) تعكس ثقافة مجردة من الانتقائة التمييزية. فالجميع يبدو أنه متفق على “جمال” وربما “شاعرية” الشعار، ولكن لا أحد، عندما ندقق النظر ونبدأ في المقارنة، يعرف بالضبط محتواه ولا كيفية تطبيقه ولا حتى الهدف منه، كل ما هناك أن الفرد قد قيل له: (أن النهاية سوف تكون سعيدة) مع تلك الشعارات، لا أكثر من هذا ولا أقل. ولكن تلك “النهاية السعيدة” الموعودة لم يصل لها مجتمع عربي واحد أبداً، ولن يصل أبداً. ببساطة، الموضوع هو تسيير جماهير والتحكم فيها، تلك هي الحقيقة. وعلى هذا المنوال راجت الحركات السياسية الإسلامية من خلال شعار (الإسلام هو الحل)، وأنا أجزم بأن جميع تلك الحركات ومعها جميع الشعوب التي تمشي ورائها لا تعرف أن تجيب على سؤال (كيف هو الحل؟). ولكنه شعار على كل حال، ومفيد جداً في بروز الحركات السياسية التي تتبناه على أكتاف تلك الجماهير التي لا تعرف من الدين إلا أن (الشيخ قد أفتى)، وكفى الله المؤمنين القتال. وقس على هذا باقي أطياف المجتمع العربي من أديان ومذاهب وثقافات.
وبما أننا جزء من أمة مهزومة، وأيضاً مهزوزة، في كل مجال سياسي واقتصادي وفكري وثقافي وعسكري أيضاً، فإننا أيضاً نحتاج إلى (شعارات) مثل حاجتنا تماماً إلى (انتصارات) لتعويض عوامل النقص هذه. فبعد شبه الاستقرار على قناعة بأننا شعوب لا تعمل، ولن تعمل، وفي أغلب الأحيان لا تفكر إلا من خلال العاطفة أو الدين، ونُلقي اللوم دائماً على الدولة والسياسة كوسيلة سهلة لتبرير التخلف المتجذر في العقل والثقافة والممارسة، وبالتالي لا نملك أي أمل في أن ننافس أي شعب متحضر آخر في مجال الإبداع الثقافي والفكري والاقتصادي والعلمي، جرى الاستقرار على مبدأ غير مُعلن صراحة، ولكنه مفهوم ومتداول على مستوى الوعي الشعبي، وهو أن الحاجة إلى الانتصارات سوف نجده في (كرة القدم) (!!). وبالتالي معاركنا مع بعضنا البعض يلخصها شوطين بين منتخبين عربيين لكرة القدم، بكل تجاذباتها وشحنها وعراكها الشعبي مع كوارثها الإعلامية والسياسية كما حدث منذ سنوات قليلة ماضية بين مصر والجزائر. وبما أننا فاشلون أيضاً في مجال كرة القدم، ولم نستطع أن ننافس في أي دورة عالمية محترمة واحدة، وسقط سقوطاً ذريعاً الشعار الغريب العجيب (نرفع اسم الدولة) في مجالات الكرة وما شابهها، اتجه معظم أبناء الشعب العربي ليشجع (رويال مدريد) أو (برشلونة) لعله يجد انتصاره المفقود معهم. ولكن حتى هذه الفرق عندما حضر أحدها إلى الكويت مثلاً، وامتلأت المدرجات عن آخرها بهذا الشعب الباحث عن انتصار، “ضحك” عليهم هذا الفريق ولعب بلاعبيه الاحتياط مع المنتخب، ولتكون النتيجة “تعادل”. فحتى مع الاحتياط لا يوجد عندنا انتصار.
ولكن الأخطر من هذا كله هو أن الشعارات الفارغة المضمون والمحتوى من على شاكلة (الوطنية) أو (الوحدة الوطنية) أصبحت وسيلة من وسائل التخوين والتشرذم والتبرير للقمع والتنكيل والقتل والمزيد من الكارثية الفئوية التي هي أساس هذا الوضع المزري الذي نراه حولنا. فمفاهيم القبيلة، تماماً مثل مفاهيم الدين والطائفة، على المعنى والمفهوم العربي العام الشامل الذي نراه حولنا، ينطبق عليه تماماً مقولة ابن خلدون الشهيرة:
“إن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب، والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم، فصار لهم خُلُقاً و جَبَلة. وكان عندهم ملذوذاً لما فيه من الخروج عن ربقة الحُكم و عدم الانقياد للسياسة، وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له”.
وقبل أن يندفع أصحاب الأديان غير الإسلامية أو الذين يرون في أنفسهم بأنهم لا ينتمون لـ (العرب) حتى وإن كانوا مواطنين لدول عربية يحملون جنسيتها في (التشفي) غير الموضوعي من مخالفيهم، فإنني أود أن أذكرهم بأن مقولة ابن خلدون تنطبق تماماً عليهم أيضاً وبجدارة، لأنهم، وببساطة، جزء هذه القومية (العربية) ومشاركون في نتيجتها العامة وإنْ رفضوا أو برروا. هم جزء من المشكلة بالتأكيد ولم يكونوا يوماً (نقطة مضيئة) حتى يستحقوا معها التمييز. فما من أحد يستطيع أن يصف واقعه بدون نظرة قبلية كما يؤكد لنا عبدالله العروي، أو كما يؤكد محمد عابد الجابري بأن (النزعة السلفية) تطبع الفكر العربي ككل. وبالتالي، حتى الأديان والأعراق الأخرى مشاركون بهذه (السلفية القبلية) التي تميز السياق الفكري العربي بجدارة بكل كارثيتها المشاهدة.
نعود إلى مقولة ابن خلدون، وقبل أن يعترض معترض بأن هذه عنصرية أو فئوية وإلى آخر تلك التهم المعلبة الجاهزة عندنا، فإنني أود أن أقول بأن (التعرب) هو صفة، ممارسة، مفهوم، منهج، عقلية يشترك فيها الجنس البشري كله وبلا استثناء. فعندنا في الوطن العربي ممن أصولهم من الشرق أو الغرب أو الشمال والجنوب، بل لا يزال بعضهم لا يتكلمون العربية بطلاقة، ولكنهم (متعربين) بجدارة بسبب هذا المفهوم الخلدوني الغالب عندنا في الوطن العربي. وأيضاً عندنا متعربين (مسيحيين) و (شيعة) وبحماس منقطع النظير، تماماً كما عندنا متعربين (سنة) و (دروز) و (علويين) وبحماس يفوق الآخرين والأولين. فـ (التعرب)، كما نجد أصوله الأولى في نصوص القرآن، هو منهج مذموم سيئ، لأن التعرب كممارسة هو خراب داخلي ينخر في أس المجتمع. هذا مع العلم أن النبي محمد، صاحب القرآن، عربي أصلاً وفصلاً. فلا علاقة أبداً، لا من قريب ولا من بعيد، بين أن تكون عربي وبين أن تكون متعرب. فالأول أصل وعِرق، والثاني مفهوم كارثي وممارسة لا يشمل فقط الأصل العربي أو مَنْ دان بالإسلام. ومن هذا المنطلق كان يتحدث ابن خلدون.
كان ذلك أعلاه رأي ابن خلدون في “الأمة الوحشية” التي سوف يُسرع فيها الخراب. قارن الآن ما يحدث في ليبيا وصحراء الجزائر وتونس ومصر والسودان والصومال وسوريا ولبنان وفلسطين والعراق والبحرين والسعودية وغيرها من الدول العربية مع تلك المقولة. ثم توقف متفكراً فيها، ثم أخيراً قف احتراماً لهذا العالم الجليل.