قصة الأربعاء”أعتذار”
إعتــــذار ..!!
للكاتب الفرنسي: غي دي موباسان
“هناك قلوب لا تعرف الكراهية ولا تستطيع أن تكره حتى لو أرادت فحذار أن تكْسروا تلك القلوب النظيفة الناصعة بغدر فقد تحولونها إلى رماد أبيض”.
عندما بلغت (بْرث) سنّ الثامنة عشر من عمرها زوّجها أبوها من شابّ يدْعى (جورج بارون) وكان يعمل في المقايضة وقد امتاز بالجاذبية حلو اللسان .. وإنه ينتمي إلى عائلة عريقة أما (بْرث) فكانت ثرية ثراء فاحشا .. وما لبث زوجها أن اصطحبها إلى باريس وهناك ظلّت وحيدة لا تعلم عن هذه المدينة العظيمة ولا بملذاتها ولا عاداتها لأنها كانت تفضل الابتعاد عن غدْر وغموض الدنيا .. سجينة منزلها لا تعرف غير الشارع الذي تقيم فيه وإذا غامرت بالذهاب إلى حيّ آخر خيّل إليها أنها قد قامت برحلة طويلة إلى مدينة غريبة مجهولة وفي المساء كانت تحْكي لزوجها قائلة لقد خضت اليوم المنتزهات.
وكان (جورج) يصطحب زوجته مرتين أو ثلاث مرات في العام إلى المسرح وكان هذا بالنسبة لها بمثابة حدث عظيم وهي تقوم باستمرار بتذكيره وربما بعد مضيّ ثلاثة أشهر بمشاهد آخر مسرحية شاهدتْها وكانت تنفجر ضاحكة وهي جالسة إلى منضدة الطعام تتناول أكْلها قائلة ألا تذكر ذلك الممثل الفكاهي الذي كان يقلّد صياح الديك؟؟ .. أما صداقاتها فكانت قاصرة على عائلتيْن ترى فيهما مثالا للإنسانية والخلق الرفيع .. لقد كان زوجها منصرفا إلى لذّاته يعود إلى بيته وقت ما يشاء وكثيرا ما قدم إليها مع الفجر مدّعيا أنّ العمل هو الذي ألزمه أن يتأخر وإنه لمتأكد أنّ الشكّ لا يساور قلب زوجته الساذجة .. وذات صباح تسلّمت (برث) رسالة من مجهول ففضتْها وقد جاء فيها أشياء اعتبرتها تهما إلا إنها لم تستطع أن تبعد عن تفكيرها محتوى الرسالة التي أراد بها راسلها أن يقتحم حياتها ليقلقها ويبدد سعادتها.
لقد تضمنت الرسالة أمرا خطيرا إذ إنّ زوجها على علاقة بأرْملة شابة اسمها (مدام روزتا) وقد مضت سنتان على هذه العلاقة وهو يقضي سهراته كلها بمنزلها ولم تعرفْ (برث) من شدة اضطرابها كيف تواجه زوجها أتبدو كعادتها معه ولا تخبره شيئا لتخدعه وتحاول التجسس عليه فتدبّر له كمينا توقعه فيه .. ولم يكدْ يأتي زوجها في الظهيرة لتناول الغداء ألقت الرسالة في وجهه وأسرعتْ خارجة من الغرفة وهي تبكي وأتاح له خروجها لأنْ يفكّر في الموضوع وتجهيز الإجابة قبل أن يلحق بها في غرفتها .. ثم طرق بابها ففتحته له في الحال ولكنها لم تنظر في وجهه فابتسم (جورج) في هدوء وجلس إلى جانبها وجذبها إليه وقال في نبرة دافئة وبأسلوب مرْهف .. زوجتي الصغيرة إنّ (مدام روزتا) ما هي إلا صديقة أعرفها منذ عشرة أعوام وإني أحبّها كثيرا وأحبّ أن أضيف لك أني أعرف عشرين أسْرة ولم أخْبرْك شيئا عنهم لأني أعرف جيدا أنك تحبّين العزلة ولا ترغبين بتكوين صداقات جديدة ولكي ننهي هذه الأكاذيب الخبيثة ارتدي ملابسك بعد الغذاء وسنزور هذه السيدة في بيتها وأنا واثق أنها لا تلْبث أن تصبح صديقتك أيضا.
عانقت (برث) زوجها بحنان شديد إذ أنها شعرت أنّ هناك خطرا سينزل بها وقد استيقظت في نفسها غريزة حبّ الاستطلاع التي إذا اشتعلت في دواخل المرأة فمن المستحيل إخمادها فهي رغم ما قاله زوجها لها ما زالت ترتاب في الأمر .. وبعد الغداء اصطحب جورج زوجته إلى شقّة صغيرة جميلة في مبنى أنيق وكانت الشّقة مزيّنة بطريقة رائعة .. وجلس الزوجان في غرفة الجلوس التي كانت خافتة الأضواء لانسدال الستائر المنسّقة تنسيقا بديعا .. وبعد انتظار دام خمس دقائق إذ بالباب يفْتح وإذا بسيدة صغيرة السنّ تظهر وقد بدت الكآبة على وجهها .. إنها سيدة شابة صغيرة الجسم ممتلئة بعض الشيء وإنّ الدهشة مرسومة على محيّاها في حين بذلت جهدا لإخفائها بابتسامتها وقدّم (جورج) زوجته إلى (مدام روزتا) وما لبثت الأرْملة أن ندتْ منها صرخة خافتة تنمّ عن دهشتها وسرورها في عيْن الوقت ثم أقبلت بخطوات سريعة وهي تمدّ يدها وأخبرتهما أنها لم تكن تحلم بهذه السعادة لأنها تعلم جيدا أنّ (مدام بارون) لا ترغب برؤية الناس وأنها كانت تشعر برغبة جارفة في التعرف على زوجة (جورج) كي تحبّها مثلما تحبّ زوجها .. ولقد أبْدت السيدة فرْحتها وكانت تنطق باسم (جورج) بلهجة أخوية لا تعرف التكلف.
ولم تلبثْ صداقة (برث وروزتا) أن توطدت إذ لم يكدْ يمرّ شهر على صداقتهما حتى أصبحتا لا تفترقان ويلْتقيان في اليوم مرتيْن وغالبا ما يتناولان غذاءهما معا أما بمنزل (برث) أو ببيت (روزتا) .. ومنذ ذلك اليوم قلّ خروج (جورج) من داره ولم يعد يتحجج بكثرة الأعمال بل كان يؤكّد أنه يحبّ الجلوس في المنزل أمام مدفأته .. وأخيرا خلتْ شقّة في العمارة التي تقطن بها (روزتا) فبادرت برث للاقتراح على زوجها لأنْ ينتقلا إليها كي تكون هي قريبة من صديقتها وقد تمّ ذلك فعلا .. واستمرّت الصداقة بين السيدتيْن عامين كاملين صافية لا تشوبها شائبة، صداقة روحية قلبية لا نظير لها، صداقة مخلصة وفيّة .. ولم يكن اسم (روزتا) يفارق أحاديث
(برث) فهي بالنسبة لها الكمال بعينه ، كما إنّ (برث) كانت سعيدة هادئة مأمونة الجانب.
وفجأة مرضت السيدة (روزتا) فلازمتها (برث) ومرت ليلي على (برث) تملّكها اليأس من شفاء صديقتها وكذلك كان زوجها حزينا على صديقتهما روزتا ..
وذات صباح أتى الطبيب لفحص (مدام روزتا) وعند خروجه تحدّث معهما على انفراد بعيدا عن المريضة وأخبرهما بحالة صديقتهما البالغة الخطورة وبعد أن غادرهما الطبيب جلس ينظر كلّ واحد منهما إلى الآخر حزينيْْن باكييْن ولازما سرير المريضة طوال الليل وبين لحظة وأخرى كانت (برث) تعانق (روزتا) بينما يحملق جورج فيهما .. وفي اليوم التالي ازدادت حالة (روزتا) سوءا وعندما اقترب المساء أخبرتهما بأنّ حالتها آخذة في التحسن وأقنعتهما بالذهاب إلى منزلهما لتناول الغداء فذهبا لكنهما كانا حزينيْن ولم يتناولا إلا القليل من الطعام وفي هذه الأثناء أحضرت الخادمة مظروفا وأعطته لجورج الذي فضّه وتطلّع في الورقة وسرعان ما شحب وجهه ونهض مضطربا وهو يقول لزوجته: “سأضطر لتركك مدة عشرة دقائق وسأعود أرجوك ألا تخرجي من البيت”.
وبسرعة هرع إلى غرفته آخذا قبّعته وهرول خارجا، وانتظرت (برث) وهي مضطربة بهذا الشاغل الجديد أضف إلى ذلك أنّ أمر عدم ذهابها مرة ثانية إلى (روزتا) إلا إذا عاد زوجها كان يقْلقها أيضا، ولما طال غياب (جورج) رأت أن تذهب إلى غرفته كي تتأكّد إذا أخذ قفّازه معه فربما ذهب إلى مكان بعيد والجوّ بارد في الخارج، ودلفت الحجرة وما كادت تلْقي عليها نظرة حتى رأت القفّاز وعلى مقْربة منه ورقة مكومة كان جورج قد ألقاها فعرفت في الحال أنها الورقة التي سلّمتها له الخادمة وتملّكتها رغبة جارفة لقراءتها ومعرفة ما فيها فأسرعت وفتحتْها وفي الحال تعرفت على الخط إنه خط (مدام روزتا) كانت الورقة مكتوبة بيد مرتعشة فقرأت ما يلي: “عزيزي جورج احضرْ بمفردك وعانقْني فإني على وشك الموت”.
ولم تستطع (برث) أن تفْهم للوهلة الأولى شيئا ووقفت مذهولة مصدومة وأحستْ بفكرة الموت توغزها في صدرها وأضاءت في دواخلها الحقيقة، حقيقة خيانتهما لها وقد تبينت الآن مكْرهما المزمن ونظراتهما الخبيثة وكم مرّ طعم الغدر إنها كانت غبية وهي الآن تتذكر موقفهما ذات مساء حيث كان يقرآن في كتاب واحد ولاحظت كيف كانا يتبادلان النظرات في نهاية كل صفحة .. وغمرها الحنق ومزق قلبها الألم وامتلأ باليأس الذي لا حدّ له .. سمعت (برث) خطوات زوجها فأسرعت إلى غرفتها وأغلقتها عليها فصاح زوجها اسرعي فإنّ (مدام روزتا) تحتضر .. ففتحت باب الغرفة بسرعة وقالت بشفاه مرتعشة: “اذهب لها بمفردك فإنها ليست بحاجة إليّ”.
ونظر إليها (جورج) مندهشا وكرّر قائلا بحزن: “اسْرعي إنها تموت” .. فأجابته (برث): “كنت تفضّل أن أكون أنا مكانها” .. وفهم (جورج) الأمر فتركها في عزلتها وحيدة وهرع إلى (روزتا) مرة أخرى وانهالت دموعه بجوارها وأخذ يبكي دون خوف أو خجل غير مبال بغضب زوجته التي لم تتلفظ بعد ذلك بأيّ لفظ معه بل ولم تنظر إليه، عاشت حبيسة حزنها وثورتها العنيفة وكانت تصلّي وتدعو لربها صباحا ومساء .. وعلى الرغم من أنهما كانا يأكلان معا على منضدة واحدة ويعيشان في شقّة واحدة لكنّ الصمت ظلّ مخيّما على حياتهما .. وبعد فترة تخلّى جورج عن صمته إلا أنّ (برث) لم تغفرْ له وهكذا استمرت تلك الحياة السقيمة طوال عام كامل كلّ منهما يعيش غريبا عن الآخر حتى أوشكت (برث) أن تجنّ.
وذات صباح خرجت (برث) مع الفجر ثم عادت إلى منزلها حوالي الساعة الثامنة صباحا حاملة في يديها باقة من الزهور البيضاء فأرسلتها إلى زوجها مصحوبة برغبتها في التحدث إليه .. وحضر (جورج) مضطربا مرتعشا إلى زوجته التي قالت له: “هيا نخرج سويّا وخذ هذه الزهور معك إنها ثقيلة عليّ” .. وحمل الزوج الزهور وتبعها إلى حيث العربة التي ما كادا يركبانها حتى انطلقت بهما ولم تتوقفْ إلا أمام بوابة المقْبرة وحينئذ قالت (برث) وقد امتلأت عيْناها بالدموع: “خذنيي إلى قبرها” .. وارتعش (جورج) دون أن يدري سببا لذلك .. ولكنه سار أمامها حاملا الزهور بين ذراعيْه، وأخيرا وقف أمام قبو من الرّخام الأبيض وأشار إليها دون أن ينطق بكلمة .. أخذت (برث) الزهور منه ووضعتها عند أسفل القبر ثم ركعت على ركبتيْها وراحت تصلّي .. ووقف (جورج) خلفها يبكي والذّكريات تملأ خاطره .. ونهضت (برث) ومدت يديْها إلى زوجها قائلة: “إذا أحببت فسنكون أصدقاء”.
تمت،،،
ترجمة: مجدي شمس الدين
?«صفحتنا على الفيس بوك: (قصص قصيرة عالمية للواتساب):https://m.facebook.com/storiesselected»
?#M.S.