لا نَعرِف حقيقةً نوايا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ودَوافِع خَطواتِه التي تَمثّلت في الاتّصال هاتفيًّا بقادة الدُّول الرئيسيّة في الأزمةِ الخليجيّة، أي السعوديّة والإمارات وقطر، قبل يَومين وتَوجيه دعوةٍ لهم لزِيارة واشنطن في غُضون الشَّهرين المُقبِلين أي آذار (مارس) ونيسان (إبريل)، ولكن ما نَستطيع التكهّن بِه أنّه يتطلّع إلى هدفٍ أكبر من تَحقيق المُصالحة الخليجيّة، وإنهاء هذهِ الأزمة، وهو تَحشيد هذهِ الدُّول في الخَندق الأمريكي لمُواجهةٍ مُحتَملةٍ ووشيكة مع إيران، بعد أن اكتملت مَرحلة “جَلْبْ” الأموال.
وزير الدِّفاع القطري السيد خالد بن حمد العطية قال في أواخِر شهر كانون الثاني (يناير) الماضي في مُحاضرةٍ أمام مُؤسّسة “هيريتج” الأمريكيّة في واشنطن “أن مُكالمةً هاتفيّةً واحِدة من الرئيس ترامب من مِقعده في البيت الأبيض كفيلةٌ بإنْهاء الأزمة الخليجيّة من خِلال دَفع جميع الأطراف إلى مائِدة المُفاوضات.
لا نعتقد أن الرئيس ترامب عَمِل بهذهِ النَّصيحة حرفيًّا، ولكن من المُؤكّد أنّه كان على عِلمٍ بها، فهُناك قمّة أمريكيّة خليجيّة سنويّة تَنعقد في واشنطن في أيّار (مايو) من كُل عام، وربّما سَتكون القمّة المُقبِلة مُختلفة عن سابقاتِها، من حيث تشكيل تحالفٍ خليجيٍّ مِصريٍّ أردني بزعامة أمريكا لمُواجهة إيران وأذرعتها العسكريّة وحُلفائها في العِراق وسورية ولبنان وأفغانستان، وقد تنعقد هذهِ القِمّة دون تحقيق المُصالحة، تمامًا مِثلما حصل في قمّة الكويت الخليجيّة.
الإدارة الأمريكيّة هي التي وَقفت خلف الأزمة الخليجيّة، وهي التي أشعلت فَتيلها أثناء زيارة الرئيس ترامب للرياض في أيّار (مايو) الماضي، وحقّقت مكاسب ماديّة كبيرة من ورائها، فقد عاد الرئيس ترامب من الرياض إلى واشنطن وفي جُعبَته اتٍفاقات بـ460 مليار دولار على شكل صفقاتِ أسلحة واستثمارات من بينها 110 مليار دولار لشِراء صفقة طائرات وأسلحة فوريّة لدَعم الجيش السعودي و350 مليار دولار على مَدى عشر سنوات، ووقّعت الإمارات صفقات مُماثلة في حُدود 35 مليار دولار، وقطر بحواليّ 13.5 مليار دولار في صَفقات لشِراء طائِرات (إف 16)، وحتى البحرين الدَّولة الأفقر في مجلس التعاون الخليجي، دخلت المَزاد التسليحي لشِراء طائرات مدنيّة من شَركة بوينغ، بالإضافة إلى مبلغ 3.4 مليار دولار لشِراء طائِرات (إف 16) أيضًا.
بعد أن حقّقت إدارة ترامب ما أرادته من مِليارات لخَلق وظائِف جديدة، وتعزيز مَشاريع البُنى التحتيّة، بدأت تتطلّع إلى حل الأزمة الخليجيّة وإنهاء الخِلافات المُتفاقِمة بين حُلفائها، ولكن لأسبابٍ تَعنيها ودولة الاحتلال الإسرائيلي أيضًا.
مَسؤول أمريكي كبير قال لوكالة أنباء “رويترز” تعليقًا على هذهِ الاتّصالات الهاتفيّة “نُريد حَل الخِلافات الخليجيّة قبل القمّة الخليجيّة الأمريكيّة، للتَّركيز بشكلٍ أكبر على الشُّؤون الاستراتيجيّة الأُخرى مثل إيران”.
البَيان الرسميّ الذي نَشره موقع البيت الأبيض عن فَحوى المُكالمة الهاتفيّة بين الرئيس ترامب والشيخ تميم بن حمد أمير دولة قطر تَضمّن فقرةً لم يُشِر إليها نظيره القَطري الرسمي، تقول “أن ترامب شَكر أمير قطر على قِيادته في إبراز السُّبل التي يُمكِن أن تجمع دول الخليج للتصدّي بشكلٍ أفضل للأنشطةِ الإيرانيّة المُزَعزِعة للاستقرار وهَزيمة الإرهابيين والمُتطرّفين”.
البيان الذي أصدرته دُول الحِصار الأرْبع بَعد المُكالمة الهاتفيّة بين أمير قطر والرئيس ترامب، يَعكِس عدم رِضاها عن المُبادرة الأمريكيّة هذه، فقد شنَّ البيان هُجومًا شَرِسًا على دولة قطر واتّهمها بإشعالِ حربٍ دبلوماسيّةٍ، مُؤكّدًا “أن الحل للأزمة مع قطر يجب أن يأتي في إطارِ جُهودِ الوساطةِ الكويتيّة”.
هذا البيان لا يعكس استمرار تصلّب هذهِ الدُّول تُجاه قطر، وإنّما وجود خِلافات بينها وبين الإدارة الأمريكيّة الحاليٍة تُجاه الأزمة الخليجيّة أيضًا، ويتّضِح ذلك من خِلال تسريباتٍ في الصُّحف المُوالية لها تتضمّن اتّهامات للبيت الأبيض، فَحواها أنّه “يُريد إذابة الجليد مع السعوديّة والإمارات من بوّابة التَّصعيد مع إيران بعد غَضب الدَّولتين من الإعلان عن عقد قِمّة في كامب ديفيد دون التَّشاور وإجراء حِوار مع الدُّول المَعنيّة وفي غِياب رؤيةٍ واضِحةٍ للوَساطة التي تَعتزِم واشنطن القِيام بِها”.
الأمير محمد بن سلمان، وليّ العهد السعودي، الذي تلقّى الدَّعوة لزِيارة واشنطن عبر مُكالمةٍ مع الرئيس ترامب سيزور أمريكا بعد أسبوعين، بينما يقوم الشيخ محمد بن زايد، وليّ عهد أبو ظبي، بزِيارةٍ مُماثِلة مُتوقّعة في شهر نيسان (إبريل)، أي قَبل زيارة الأمير تميم في الشَّهر نفسه، وعلى ضُوء هذهِ الزِّيارات واللِّقاءات سيتحدّد مَصير قمّة كامب ديفيد والوَساطة الأمريكيّة.
أن تُؤكِّد الدُّول الأربع المُقاطِعة لدولة قطر أن الوساطة الكُويتيّة هي البوّابة الوَحيدة للتّعاطي مع حُلول الأزمة الخليجيّة، فهذا يعني أنها تَرفُض الوِساطة الأمريكيّة، مِثلما تَرفُض التَّقارب القطري الأمريكي المُتزايِد.
باختصارٍ شَديد هذهِ الدُّول لا تُريد حلّاً للأزمةِ التي باتت تعتبرها “صغيرة جِدًّا”، وتُريد استمرار المُقاطَعة، وربّما إيصال رسالةً مَفادها أن أمريكا، وعلى عَكس ما تقول الدّوحة، ليست الوَحيدة القادِرة على حَل هذهِ الأزمة، بمُكالمةٍ هاتفيّةٍ أو غيرها، “فالمُناكفة” من أبرز أدبيّات الدُّول الخَمس المُتصارِعة دون أيِّ استثناء، ومِن غَير المُستبعد نَجاحها في هذا المِضمار.
“رأي اليوم”