قهوة الصباح “قراءة سينمائية في قصيدة أمل دنقل حزن طويل كالطريق من الجحيم الى الجحيم
صفحة البداية
الأعضاء
مواضيع نشطة
مساعدة
موقع كووورة
سجل نفسك كعضو!
أرشيف: أدباء وشعراء ومطبوعات أرشيف: أدباء وشعراء ومطبوعات أضف موضوع جديد
موضوع جديد جهز الموضوع للطباعة
طباعة إذهب الى منتدى:
هذا الموضوع مقفول ولا يمكنك الرد عليه. °ˆ~*¤®§( التحليل السيميائي للخطاب الشعري //((الحزن)) لصلاح عبد الصبور )§®¤*~ˆ°الجزء1
ZaKinLoVe
01:22 – 2009/04/11 معلومات عن العضو
التحليل السيميائي للخطاب الشعري قراءة قصيدة ((الحزن)) لصلاح عبد الصبور
ــــــــ د. بشير محمودي ـــــــ الجزائر
– الجـــــــزء 1 –
إن الإشكالية التي تستوقفنا في مجال الدراسات النقدية المعاصرة للخطاب الشعري، هي نقص الإجراءات أو التطبيق لكثير من القضايا النقدية التي لا تتعلق بالخطاب الشعري فحسب، بل تتعلق كذلك بالخطاب السردي، حيث يقع تأمل القارئ على تفاوت كبير بين التنظير والإجراء. فهناك طرح غني وثري على المستوى التنظير، يقابله اختزال كبير وتعميم واضح على مستوى الإجراء.
ولعل الأمثلة الدالة على ذلك كثيرة، فهناك قضايا أسلوبية ودلالية، لقيت اهتماماً كبيراً من قبل الباحثين والنقاد، تنظيراً وتعريفاً، ولكن ـ للأسف ـ بقيت غامضة، إجراءً وتطبيقاً، حيث يصعب على القارئ تمثلها واستيعابها. فيغدو الإجراء، من أجل ذلك أداة أو وسيلة أساسية ومهمة، لتوضيح الكثير من القضايا النقدية المتعلقة بالخطاب بشكل عام البنية النصية، التناص، علامية النص، التأويل، القراءة المنتجة، الفضاء الدلالي، الفضاء النصي…).
ونجد التحليل السميائي للخطاب الأدبي بعامة، لا يخرج عن هذه الإشكالية المطروحة (التفاوت بين التنظير والإجراء)، على الرغم من أن “السميائية” أو “السيميولوجيا” (1)، أعطت للقراءة أدوات خصبة وغنية، تمكن القارئ من التوغل في النسيج الداخلي، أو في البنية الجوانية للنص، إذ إن المنظرين للاتجاه السميائي، وهم يبتكرون نظرياتهم ويثبتونها في الوقت نفسه، لم يلغوا الجانب الإجرائي، بل اتخذوه متكأهم الأساسي، في عرض نظرياتهم وتصوراتهم الجديدة، حول مفهوم النص وآلياته.
فالسميائية أداة لإثراء القراءة، وهي نموذج أنسب لتصور قراءة داخلية دقيقة لبنية النص ونسيجه. قراءة لا تتحدد ميكانيزماتها واستراتيجيتها، إلا بتفكيك أو بتشريح بنية النص. فيصبح الإجراء الذي يعتمد على التفكيك والتشريح أساساً جوهراً لمفهوم القراءة الداخلية.
فكل شيء يفسر انطلاقاً من النص، انطلاقاً من علاماته وإشاراته، المكونة لفضائه، والممثلة لمستوياته (دلالي ـ تركيبي ـ نحوي ـ صوتي ـ إيقاعي). فكأن عملية القراءة، هنا تشبه إلى حد كبير عملية جراحية تجري لأحد المرضى، حيث ينصب اهتمام الطبيب على مفهوم المرض (تنظير) بقدر ما ينصب على كشف هذا المرض واستئصاله بصورة عملية ويدوية (تطبيق).
لكن هذه العلامات أو الإشارات لا تبقى عائمة في فضاء النص، بل تنتظم وتتحد وفق قانون معين ينظمها ويهيكلها. وهذا القانون يمثل في الوقت نفسه الخيط الرفيع الذي يجب على القارئ أن يكتشفه عبر قراءات عديدة للنص (جمع قراءات هنا ينصرف إلى عدد مرات قراءة النص).
فكل نص يتضمن نواة ما، أو بؤرة ما، لا يمكن كشفها إلا من خلال قراءة داخلية إجرائية تساعد العلامات أو الإشارات على تحديدها. فالقارئ يعمل على تتبع تلك العلامات في النص، ثم تصنيفها وترتيبها، حسب القانون أو النظام المتحكمين في بنية النص.
إلا أن عملية تصنيف العلامات وتبويبها، هي عملية شكلية إجرائية؛ إذ إن كل العلامات في النص، تخضع لعزف واحد أو للحن واحد، تعمل على إنجازه أو خلقه. فكلها تدور حول مركز واحد أو بؤرة واحد. أي أنها تخدم قصة المبدع (الكاتب)، أو المعنى الذي يتوخاه في النص، فتغدو علامات المضمون هي بناء لعلامات الشكل، وهكذا لا سبيل إلى فصل المضمون عن الشكل، والعكس صحيح.
إذن، فهل هناك قراءة صحيحة وأخرى خاطئة للنص؟! لأن عبارة النص تحتمل قراءات متعددة، قد لا تصدق على كل النصوص، فهناك نصوص ترتبط بالمناسبة والتاريخ ارتباطاً كبيراً، فكيف السبيل إلى تحقيق تعددية للدلالة في هذه النصوص؟ لتبقى النصوص الراقية التي تمتلك شعرية أو توصف بالأدبية، هي النماذج النصوصية المحققة لنظرية التعدد الدلالي في النص بتعدد القراءة.
إذ لا يمكن أن تتعدد القراءة، إلا إذا كان النص المقروء يطرح تعدداً أو احتمالاً دلالياً، لنصل أخيراً، إلى مفهوم القراءة القريبة أو المحاذية لمركز النص وبؤرته، في مقابل القراءة البعيدة، التي تنأى عن مركز النص ومحيطه لأن كلمة “الفضاء الدلالي” وحدها، تحمل معنى الاتساع والشساعة، بل وقد تحمل معنى التيه والضياع ما لم يستطيع القارئ الكشف عن القانون الذي تنتظم من خلاله العلامات، وعن طبيعة هذه العلامات في الوقت نفسه.
ومن هذا المنطلق، سنحاول قراءة قصيدة لـ “صلاح عبد الصبور” بعنوان” الحزن”(2)، إذ إن عملية مسح لديوان هذا الشاعر، جعلتنا نقف على قصيدتين رائعتين، تحققان بالفعل معظم المقولات والأفكار أو التصورات التي تدور حول المفهوم الجديد للقراءة ولآلياتها: هما: قصيدة “الحزن” وقصيدة “الحب”(3).
أولا: البنية الدلالية:
إن ربط مفهوم البنية بالدلالة، يتم من خلال الكشف عن جملة الدلالات السياسية والتاريخية والثقافية التي عملت عملها في النص، على شكل بنى يتداخل بعضها ببعض، وتنتظم وفق ثنائية، أو جملة من الثنائيات تتفرع عن ثنائية أصلية، تتحكم في هذه الثنائيات أو هذه البنى الدلالية؛ حيث نجد ثنائية (التفاؤل/ التشاؤم) تتحكم في كل البنى الدلالية في نص “صلاح عبد الصبور” لتجسد في الأخير الصراع القائم بين طرفي الثنائية الدلالية.
أ ـ البنية الانفعالية:
إن تفكيك النص إلى بنى دلالية أو إلى زمر دلالية، يتطلب وضع عنوان لكل بنية على حدة.
فمضمون النص يفرض علينا التفكير أولاً في البنية الانفعالية، إذ الشاعر يتحدث عن الحزن، ويعلن بصيغة التأكيد على حزنه، على الرغم من أن هذا الحزن، قد يأخذ إيحاءات وتجاوزات دلالية، تبعده عن معناه القريب أو المألوف. لكن يبقى حزن الشاعر ماثلاً، يزداد حدة من بداية النص إلى نهايته.
* يا صاحبي إني حزين.
* طلع الصباح، فما ابتسمت، ولم ينر وجهي الصباح (4).
حيث تظهر هذه البنية الانفعالية (الحزن)، بصورتين، إحداهما سلبية، يمثلها صوت “الشاعر” في النص، والأخرى إيجابية، يمثلها صوت “الصديق”. وإن كانت الصورة السلبية (التشاؤم)، تهيمن على النص بشكل كبير، بنسبة 47% مقابل الصورة الإيجابية لهذه البينة (التفاؤل).
فالنص يمثل حيزاً مغلقاً دائرياً، تمثل نهايته بدايته في الوقت نفسه. فهناك ثبات على المستوى الانفعالي أو الذاتي لدى الشاعر، فهو يعيش حالة حزن دائمة، على الرغم من تغيرالزمن وديمومته. وهذا يعكس حدة هذا الحزن من جهة، ويعدد دلالته من جهة أخرى.
ومن هنا يظهر الطابع الانتشاري لهذا الحزن (التشاؤم)، مقابل الطابع الانحصاري للفرح (التفاؤل) الذي يمثله الصديق في النص، من خلال مقطع دلالي وضعه الشاعر بين علامتي تنصيص، وكأنه كلام يتبرأ منه الشاعر.
* سنعيش رغم الحزن، نقهره، ونصنع في الصباح
أفراحنا البيضاء، أفراح الذين لهم صباح… (5)
ب ـ البنية السياسية:
وهي البنية الدلالية التي تجعلنا نتجاوز المفهوم القريب أو المألوف للحزن. إذ يمكننا أن نسقط هذا الحزن على أشياء أخرى، أو بالأحرى على أحداث أخرى، قد ترتبط بمعطيات تاريخية أو سياسية. فنحن لا نمتلك زمنا توثيقيا لكتابة النص، يجعلنا نطمئن إلى تأويل من التأويلات، أو إلى تفسير من التفسيرات (زمن كتابة النص).
لكن هناك سلطة من نوع خاص، تفرضها العلامات في النص فرضاً، لتدفع القارئ دفعاً إلى تبني دلالة دون أخرى، أو إلى تبني الدلالات جميعاً. فالحزن قد يوجد في النص بمعناه أو بدلالته المألوفين. لكن مبرراته أو أسبابه تتجاوز حد الانفعال الذاتي المحدود، ليجسد في نهاية الأمر قلقا حول مصير المجتمع كله، أو أمة بأسرها. قلق يتجاوز الذات إلى الجماعة، وإن كان هذا القلق، يسقط في سلبية كبيرة واستسلام واضح.
* الحزن قد قهر القلاع جميعها وسبى الكنوز.
الحزن قد سمل العيون.
الحزن قد عقد الجباه(6).
فتصبح كلمة “الحزن” في المقطع الشعري السابق، مشحونة بدلالات مختلفة، تبعدنا كثيراً عن مفهوم الحزن كانفعال من الانفعالات، أو كحالة وجدانية لتصبح الكلمات بمثابة علامات أو إشارات حاضرة، تحمل دلالات غائبة ـ فالكلمات: “قهر”، “القلاع”، “سبى”، “الكنوز” تجعل “الحزن” يحمل دلالة جديدة، تختلف عن دلالته المألوفة أو المعروفة (الحزن/ انفعال).
فقد يدل على نظام حكم فاسد، مستبد، أو نظام حكم دخيل (استعمار)، يمثل مرحلة من مراحل الحياة السياسية بمصر بخاصة، أو بالوطن العربي بعامة. إذ أن “القلاع” تنصرف إلى مفهوم “الوطن” أو “البلد”، ولقد جاءت بصيغة الجمع المؤكد (جميعها). كما أن كلمة “قهر” وكلمة “سبى” تدلان على الاستعمار والاستغلال (الحزن/ الاستعمار).
وتظهر هذه البنية (البنية السياسية) في النص، بصورتي التشاؤم والتفاؤل. وهي الثنائية التي تتحكم في البنية الدلالية للنص بكل مظاهرها وأنواعها ليعكس الشاعر في النص ذاتاً مستسلمة ومنكسرة، لا تأمل في الحياة، بقدر ما تنتظر الموت (تشاؤم)، في حين يمتلك “الصديق” رغبة أو إرادة للحياة (سنعيش رغم الحزن نقهره). وقد يمثل “الصديق” وجهاً آخر لذات الشاعر نفسه، لتعيش الذات الشاعرة انشطاراً وصراعاً بين اللاأمل في الحياة والأمل فيها (قد قهره/نقهره).
ج ـ البنية الكدحية:
إن هذه البنية متولدة عن البنية السياسية أساساً. فالقهر السياسي، الذي يمثل دلالة من دلالات “الحزن” لدى “عبد الصبور” في هذا النص، يولد حرماناً اجتماعياً كبيراً تجسده طبقات مختلفة في المجتمع (طبقة العمال/ الشحاذون/ اللصوص). ومن ثم يحدث تفاوت اجتماعي ملحوظ بين فئتين تعيش إحداهما حياة كريمة، وتعيش الأخرى حياة الذل والهوان والحرمان.
* “خرجت من جوف المدينة أطلب الرزق المتاح.
فرجعت بعد الظهر في جيبي قروش
فشربت شاياً في الطريق
ورتقت نعلي (7).
إلا أن هذه المعاناة الاجتماعية تتجاوز حد المعاناة الذاتية (ذات الشاعر)، لتشمل معظم فئات المجتمع أو المجتمع كله. فكأن هذا الحزن الذي يحمل قهراً سياسياً وحرماناً اجتماعياً، ضرب بخيوطه في كل مكان. فانتشر واستفحل أمره، ويظهر ذلك من خلال اللازمة التي تكررت في النص (الحزن يفترش الطريق)
* ودموع شحاذ صفيق
كاللص في جوف السكينة (8).
فهناك تقرير لحالة اجتماعية مزرية، ورغبة في هذه الحالة في الوقت نفسه. “فدموع الشحاذ” ما هي إلا علامة دالة على الحرمان والذي يعيشه المجتمع، في حين تتمتع فئة قليلة منه بخيراته وثرواته (الحزن قد قهر القلاع جميعها وسبى الكنوز). أما اللصوصية، فهي علامة دالة كذلك على الحاجة والعوز.
وتظهر الرغبة في هذه الحالة، كما أشرنا سلفا، من خلال قناعة الشاعر واستسلامه أو لا مبالاته تجاه هذا الوضع. ولعل هذا يعود إلى الحالة التشاؤمية أو الإنكسارية التي يعيشها الشاعر، حيث كل شيء فقد معناه وقيمته في الحياة. فهو يعيش حياة الزهد أو التصوف، لا يرغب في شيء، ولا يريد تغيير شيء.
* وغمست في ماء القناعة خبز أيامي الكفاف.
ولعبت بالنرد بين كفي والصديق.
قل ساعة أو ساعتين
قل عشرة أو عشرتين(9).
د ـ البنية الدينية:
تمثل هذه البنية فكرة الخلق الإلهي المنزه والعفيف، فالله لا يريد لعباده إلا الخير والكرامة، إلا ان هذا الخلق، قد يتعرض إلى تشويه أو تحريف، يعده الشاعر من أفعال الشيطان وأعماله.
* والشيطان خالقنا ليجرح قدرة الله العظيم (10).
كان هناك خلقاً آخر، يفقد الإنسان كرامته وحريته ـ تلك الحرية الأزلية التي أرادها الله للإنسان منذ خلقه. وهذا يذكرنا بقول “عمر بن الخطاب”: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا.” فاستغلال الإنسان وظلمه، هو خرق وتشويه لكينونة الإنسان ووجوده.
كما تتجلى هذه البنية كذلك في إسقاط الشاعر لواقعه الأليم على معنى الجحيم على سبيل المشابهة أو المقاربة بين الواقعين الأليمين. وكأن هذا الألم خالد، لخلود مصير الإنسان في الجنة أو في النار.
* حزن طويل كالطريق من الجحيم إلى الجحيم (11).
* قوانين انتظام البنى الدلالية:
إن الكشف عن قوانين النظام البنى الدلالية في النص، هو الكشف عن العلاقات التي تتحكم في هذه البنى، ولقد أشرنا سلفاً إلى الثنائية التي تمثل الخيط المشترك أو الربط لمختلف البنى الدلالية. وهي ثنائية (التفاؤل/ التشاؤم) المولدة لقانون الصراع بين البنى.
فهناك صراع بين البنية الانفعالية والبنية السياسية. فالحزن بدلالته السياسية يولد انفعالاً حاداً لدى الشاعر. إلا أن هذا التأثير سلبي، حيث يخضع الشاعر خضوعا ًوينقاد انقياداً لواقعه المعيش سياسياً واجتماعياً، فهو يعيش حياته بمنظور سوداوي تشاؤمي، يصل إلى حد الرغبة في الموت، ليضع حداً لوجوده ولوجود مجتمع لا يرى لوجوده معنى أو هدفاً أساسياً.
* أما أنا، فلقد عرفت نهاية الحدر العميق.
الحزن يفترش الطريق (12).
وفي المقابل نجد مسحة تفاؤلية ضئيلة في النص، تمثل صوت الصديق. وقد تكون انشطاراً لذات الشاعر نفسه. تجسد الصراع الذي يعيشه الشاعر، بين الإرادة في الحياة واللاإرادة. وإن كان الجو الإنهزامي أو الإنكساري هو المسيطر على هذه القصيدة، إلى درجة أننا نتصور الشاعر وهو ينحت تابوته، ليستقر فيه مطمئناً ومرتاحاً للأبد.
أما القانون الثاني الذي تنتظم وفقه البنى، فهو قانون التأثير، فالبنية السياسية (القهر السياسي) يؤثر على طبيعة الحياة في المجتمع. فتتولد عنه البنية الاجتماعية (الحرمان الاجتماعي).
* بأن ريحا من العفن.
مس الحياة، فأصبحت وجميع ما فيها مقيت (13).
ثانياً: مستوى التلقي:
إن كل ما يقال حول نص من النصوص، هو في حد ذاته تلقي أو قراءة. فالبنى الدلالية التي أشرنا إليها سلفا على المستوى الدلالي، تعد قراءة أو تلقيا. فهي جملة من الدلالات تصورها القارئ (المتلقي) وألحقها بدلالة النص. فقد يكون هناك اتفاق بين المبدع (المرسل/ الشاعر)، وبين القارئ (المرسل إليه/ المتلقي)، من حيث تحديد الدلالة الحقيقية للنص، وإن كنا نميل إلى عدم وجود دلالة أحادية للنص، خاصة النصوص الأدبية الراقية. أما نصوص المناسبات والإيديولوجيات فيمكنها أن تتضمن الدلالة الأحادية المباشرة، حيث يسهل على المتلقي تحديدها أو تعيينها.
ولعل نص “الحزن” لـ “صلاح عبد الصبور”، يعد من النصوص الراقية، التي تطرح اختلافاً شديداً في تحدي معنى النص. فيبقى المعنى يحيلنا إلى جملة من الاحتمالات في التفسير أو التأويل، إلى حد أن القارئ يصل إلى دلالات قد يراها بعيدة كل البعد عن النص، فيبعدها ويتراجع عنها، ويبقي في الأخير على بعضها الآخر الذي يمكن للنص أن يستوعبه ويحتويه.
إلا أن هناك دلالات تفرض ذاتها على مستوى القراءة أو التلقي، فتدفع القارئ دفعاً إلى الكشف عنها. وهذا ما حدث لنا ونحن نقرأ هذه القصيدة؛ إذ تبادر إلى ذهننا موقف الرسول ـ e ـ مع صاحبه أبي بكر الصديق في غار “ثور”، دون أن نفرض هذا الموقف أو هذا الحدث على النص. فانصرفنا إلى جمع كل ما يتعلق بهذا الحدث، قصد الوصول إلى عملية مفارقة أو مقاربة بين الموقفين (موقف الرسول وصديقه/ موقف الشاعر وصديقه).
وهذا ما حدث كذلك للدكتور “عبد الله الغذامي”، وهو يقرأ قصيدة “الخروج” لـ “صلاح عبد الصبور”، حيث اهتدى إلى فكرة “الهجرة النبوية”، قصد من وراءها إلى وضع عملية مفارقة بين خروج رسول الله ـ e ـ من مدينته، وخروج الشاعر كذلك من مدينته، وإن كان الدكتور “عبد الله الغذامي” يقيم عملية مفارقة (اختلاف)، في حين نحن نميل إلى رصد المواقف التي تسمح لنا باستنتاج المتشابه والمتداخل.
يقول “عبد الله الغذامي”: “ولكي نتمكن من التفاعل مع القصيدة أرجو أن نستحضر في أذهاننا قصة الهجرة النبوية الشريفة بكل تفصيلاتها التاريخية، وبكامل ظروفها الروحية والنفسية، وذلك لأن القصيدة مبنية على “مفارقة” تاريخية بين طرفين يمثلان قطبين متقابلين يحكمان حركة القصيدة ” (14).
قبل أن نحدد المواقف بين الحدثين، يجب أن نحدد ثنائيات تساعدنا على ضبط هذه المواقف. وذلك بتحديد أطراف هذه الثنائيات. ففي نص “صلاح عبد الصبور”، نجد الشاعر كطرف أساسي، يقابله “الصديق” ويلتقيان في طرف ثالث، وهو “الصباح أو الإيمان بالغد المشرق، وبالمستقبل المنير.
أ = الشاعر (أ/ ب) Ù (الشاعر/الصديق).
ب = الصديق (ب/جـ) Ù (الصديق/الصباح).
جـ = الصباح (أ/جـ) Ù (الشاعر/الصباح).
ومن هنا يظهر هذا التداخل الكبير المثير في الوقت نفسه، بين موقف الشاعر مع صاحبه (الصديق) وموقف الرسول ـ e ـ مع صاحبه “أبي بكر الصديق”. فـ “الصباح” يمثل الإيمان بالقضية أو بالفجر الجديد. فالرسول كان مؤمناً برسالته وواثقاً من بزوغ فجر جديد وصباح مضيء (نشر الإسلام)، وكذلك “الصديق” في نص “عبد الصبور”، كان مؤمناً بالتغيير وبالثورة، كقضية يؤمن بها، أو كرسالة يناضل من أجلها (قهر الحزن).
في حين كان الشاعر منهزماً ومنكسراً ومتشائما، لا يؤمن بهذا الصباح المنتظر، حيث يراه ضرباً من الأساطير، أو نوعاً من الزيف والخداع وتزويق الكلام. وهذا يشبه إلى حد موقف “أبي بكر الصديق” الذي انتابه نوع من الخوف أو الحزن، وهو في غار “ثور” مع الرسول ـ e ـ لقولـه تعالى: ]إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلي وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم [ (15).
فالرسول مطمئن وواثق من نفسه، لإيمانه برعاية الله وتأييده لتبليغ رسالته والانتصار على المشركين المتربصين به. وهذا هو سر إصراره وإقدامه، دون تردد أو خوف لتحقيق الرسالة ولنشر الدعوة. أما سر عزم “الصديق” على قهر الحزن، فهي الإرادة والأمل في المستقبل والرغبة في تغيير الحاضر الأليم الذي لا يؤمن “الشاعر” بزواله وتغييره، بل لا يفكر في ذلك أساساً، فيراه أسطورة وكذباً، بل وهماً كبيراً.
* وضحكت من أسطورة حمقاء رددها الصديق.
يا تعسها من كلمة قد قالها يوماً صديق.
مغرى بتزويق الكلام.
ولم تكن بشراه مما قد يصدقه الحزين (16).
وهكذا يظهر الجدل، قصد الإقناع وبعث الرغبة والإيمان بالقضية أو الرسالة في كلا الموقفين.
فالرسول ـ e ـ يخاطب أبا بكر الصديق، ويخفف عنه خوفه أو حزنه من بطش المشركين (قريش)، بعد قول “أبي بكر”: “لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا”، فأجابه الرسول: “يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما”.
وهذا الجدل نجده كذلك في نص “عبد الصبور”، بين الشاعر والصديق؛ فالصديق يبشر الشاعر بقهر الحزن وزواله (الحزن هنا يحمل دلالات بعيدة كما رأينا سلفا) في قوله: “سنعيش رغم الحزن نقهره ونصنع في الصباح أفراحنا البيضاء”. فأجابه الشاعر: “ولم تكن بشراه مما قد يصدقه الحزين”.
فعلى الرغم من وجود هذا الجدل في الموقفين معاً، فإن هناك اختلافاً من حيث نتيجة هذا الإقناع. فيبدو أن الشاعر في القصيدة لا تهمه دعوة الصديق ولا يثيره تفاؤله أو إرادته في قهر الحزن (الثورة على الواقع المعيش)، في حين يسترجع أبو بكر الصديق ثقته وإيمانه برعاية الله وتأييده، بعد تذكير الرسول له.
تداخلات أخرى:
لو تتبعنا تفاصيل مكوث الرسول مع صاحبه في غار “ثور” بكل معطياتها وظروفها، لوجدنا تداخلات أخرى تجعلنا نتفاعل تفاعلاً كبيراً مع هذه القصيدة. من أجل ذلك سنعتمد على هذه الفقرة لعقد هذه التداخلات.
“انطلق رسول الله في غار “ثور” سنة 622م، ثلاث عشر سنة من البعثة. فدخل أبو بكر قبل الرسول ـ e ـ فلمس الغار لينظر فيه سبع أو حية بقي رسول الله ـ e ـ فيه ثلاثة أيام وكان يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر يخبرهما بأخبار مكة، وكان عامر بن فهيرة يروح عليهما بقطعة من الغنم، فإذا خرج من عندهما عبد الله تبع عامر أثره بالغنم كي لا يظهر لقدميه أثر”.
* موقف الرسول مع صاحبه
* موقف الشاعر مع الصديق
المكان: غار ثور
المكان: الطريق
عبد الله بن أبي بكر: يأتيهما بأخبار مكة
الشحاذ: دموع الشحاذ صفيق
اللص: سراقة بن مالك الذي طمع في الجائزة
اللص: كاللص في جوف السكينة
الحية: لينظر فيه سبع أو حية
الحية: كالأفعوان بلا فحيح
ومن ثم يمكننا أن نوضح هذه التداخلات، انطلاقاً من العناصر المتداخلة المثبة سلفاً بين الموقفين. فعلى الرغم من اختلاف المكان (غار ثور/ الطريق)، فإنه يحمل قيمة واحدة، فهو بمثابة نقطة مركزية أو محورية، سينجز عنها تحول كبير وتغيير شديد. فخروج الرسول ـ e ـ مع صاحبه إلى الغار كان من أجل تبليغ الدعوة وإتمام الرسالة السماوية من شأنها تغيير بنية المجتمع بكامله. وكذلك الشأن في نص “الحزن”. فحديث الشاعر مع صديقه، كان لغرض التغيير والثورة على الوضع الأليم. (قهر الحزن).
أما تداخل الشخصيات بين الموقفين، فهو من حيث وظيفتها. فوظيفة “عبد الله بن أبي بكر” كانت للإخبار أو الإعلام، فكان يعكس كل ما يحدث بمكة من مؤامرات واتفاقيات معارضة للدعوة. وكذلك دموع الشحاذ الصفيق الذي كان يعكس الوضع الأليم الذي يعيشه المجتمع. أما شخصية “سراقة بن مالك” وشخصية “اللص” في القصيدة، فهما يمثلان الأذى والظلم، وقد يكونان رمزاً للمؤامرة والدسيسة حيث شبه الشاعر الحزن في القصيدة بالأفعوان بلا فحيح. وهي صورة فنية عميقة، تدل على وجود مؤامرة، دون معرفة مصدرها أو أصولها، وكأن هذا التعفن الحاصل في المجتمع ناتج عن أطراف داخلية وأخرى خارجية مجهولة لدى الشاعر، أو يتعمد إخفاءها وإضمارها.
ثبت للعلاقات الدلالية:
ومن أجل الوقوف أو الكشف عن العلاقات الدلالية الموجودة في نص “صلاح عبد الصبور”، سنحاول تطبيق المربع السميائي لقريماس (Greimas )، حيث يمكننا إثبات أركان أو رؤوس هذا المربع (الحقيقة/ الوهم/ السر/ الكذب). وهي معان أو دلالات واردة في نص “الحزن” كما أشرنا سلفاً.
وهكذا تظهر ثنائيات الصراع بجلاء وبوضوح، من خلال المربع السميائي لقريماس (Grimas )، حيث يمكننا العثور على ثنائيات عديدة متضاربة ومتقابلة، تجسد صراعاً في النص، وإن كان هذا الصراع لا يأخذ طابعاً حاداً، إذ إن الشاعر يسترسل وينساق مع نبرته التشاؤمية، فقلما تظهر نبرة الصديق التفاؤلية، قلما تفرض هذه النبرة وجودها في النص، مقارنة بوجود النظرة التشاؤمية الانهزامية التي اكتسى بها النص. فلا نجد مجابهة أو صراعاً، بل نجد رضوخاً واستسلاماً. فالصديق يستسلم للشاعر، بالرغم من أنه يحمل إرادة التغيير ورغبة تجديد الواقع وإصلاحه.