الأخبارتراث يمنيشاهدمنوعات

قهوة الصباح :قراءة في قصيدة درويش “أنا لاشيء يعجبني عشرون عاما أحاصر شبحا يحاصرني”

تقوم قصيدة “لا شيء يعجبني” لمحمود درويش على تقنية الجُملة التكرارية التي سوف ترِدُ خمس مراتٍ، على لسان خمسة أشخاص مختلفين، آخرهم الشاعر ذاته. ترِدُ أيضاً، وهذه السادسة، ابتداءً في عنوان للقصيدة. الجملة هي:”لا شيء يعجبني”.

وللجُملة التكرارية في الشعر عامةً والموزون منه خاصةً، وظيفتان عضويتان: وظيفة صوتية تتمثل في إحداث جرسٍ نطقي، يعمل على “شدشدة” النص وزيادة تناغمه وانضباطه الإيقاعي. الأخرى تعبيرية تتمثل في إحداث أو شقّ طريقٍ فرعي، من رئيسي، إلى الفكرة.

“لا شيء يُعجبني

يقولُ مسافرٌ في الباص”

هكذا تفتتح القصيدة بجُملة بسيطة لكن مُكثفة ومعبِّرة، عن سأم شخصي، يطلقها مسافر مجهول يعرب، بسوداوية ونكدية إلى حد ما، عن عدم إعجابه بشيء لا داخل الباص ولا خارجه.
لا “الراديو ولا الصحف” كأكثر شيئين لا يشعران المسافر بالوقت وطول الرحلة ووعثاء السفر، ولا الطريق بما فيه من مناظر، خلابة أم مقفرة، تحث على التأمل أو تثير الدهشة، ولا حتى “القلاع على التلال” كأجمل ما يمكن للمرء التمتع بمشاهدته في رحلة سفر.

إنه شخص سوداوي ورفيق سفر سيء.

هذا أول انطباع تبادر إلى ذهني كقارئ أللقصيدة. خاصة وأنه أطلق لمشاعره النكدية العنان وتماهى معها معرباً بعد ذلك عن “رغبته في البكاء”

وهنا يتطّير السائق من المسافر ويردُّ عليه بغلظة وتهكمٍ قاس:

“يقول السائق:

انتظر

الوصول إلى المحطة

وأبكي وحدك ما استطعت”

تظهر براعة ودهاء درويش، أو أي شاعر آخر، في قدرته على كسر أو تخيب توقعات قارئه وأخذه في اتجاه آخر. فما كان سأماً شخصياً لمسافر سوداوي النفس يسهُل قمعها بردٍّ فاترٍ من السائق سيلتفّ حولها معظم ركاب الباص الذين يبدوأ كما لو أن جُملة المسافر إياه نكأت جراحهم كل على حدة فجأة وتحولت إلى حالة إجماع.

إن الجملة المفتاحية التي أطلقها المسافر الأول جذبت إليها جميع الركاب مثل ملاعق انشدتْ إلى قطعة مغناطيس. ثم تحولت حالة اللإعجاب اللحظي التي كانت منحصرة بما هو داخل الباص وخارجه في الطريق فقط،إلى موقف وجودي من الحياة برمتها مع تزايد مؤيديها داخل النص:

“أنا أيضاً

لا شيء يعجبني

تقول سيدة:

دللتْ ابني على قبري

فأعجبه ونام ولم يودعني”

لاحظوا أن القبر هو حالة الإعجاب الوحيدة في القصيدة كلها. وليست مصادفة بالتأكيد.

ثم تفعل الجُملة التكرارية فعلها:

لا شيء يعجبني

الأمر شبيه بتساقط أحجار الدومينو المتراصة واحدة واحدة إثر إسقاط أول حجر. أو إن هذه الجُملة التكرارية مثل حصاة ألقيت في ماء ساكن، ثم أخذت دوائرها تنمو وتكبر شيئاً فشيئاً، حتى تحولت من حالة عدم إعجاب لحظي وشخصي لمسافر نَكِدٍ إلى عدم إعجاب وجودي لدى الجميع:

“لا شيء يعجبني

ولا أنا

يقول الجامعي”

وهنا تتسع دائرة المؤيدين داخل الباص. لفظ الجامعي هنا يحملنا على افتراض أن السيدة السابقة هي، بشكل أو بآخر، امرأة مسنة لم تتلقى تعليماً جامعياً كما يوحي سياق القصيدة وتراتبيتها- في دلالة ذكية على التنوع داخل الباص وتأييد عبارة، أو قناعة، “لا شيء يعجبني” من قبل أشخاص من مختلف فئات المجتمع:

مسافر لنا أن نقترح أنه عاطل وضجر.

سيدة فقدت ابنها.

جامعي.

“يقول الجامعي:

درست الأيدولوجيا

دون أن أجد الهوية في الحجارة

لقد خرجت حالة عدم الإعجاب عن السيطرة، وانتقلت بالتدريج من اللحظي إلى المكاني إلى الوجودي على لسان الجامعي الذي يأتي احتجاجه مغايرا وفي صميم الهوية (والهوية واحدة من أكثر الأمور حساسية بالنسبة لإنسان مقيم أو مهاجر فلسطيني) ثم يطلق سؤالاً حائراً من غير إعجاب وبشيء من السخط والقلق الوجودي:

“هل أنا حقاً أنا”؟

وبعد، يأتي البطل الرابع في القصيدة وآخر المتحدثين قبل الشاعر. هذه المرة ليس مسافراً مجهولاً، ولا هوسيدةً فقدت ابنها، ولا حتى جامعياً قلقاً. إنه هذه المرة بعكس المتوقع جندي وظيفته الأساسية حماية النظام وحراسة الأوضاع القائمة وهو بالتأكيد آخر من يُتوقع منه مساندة حالة اللإعجاب المشاعة داخل الباص:

“ويقول جندي

أنا أيضاً

لا شيء يعجبني

أحاصر دائما شبحاً يحاصرني”

وهذا اعمق توصيف لحال الجنود في البلاد العربية.

ويواصل درويش سرده على طريقة النص الوصفي أو السردي كأحد مبتكرات قصيدة النثر إنما دون التخلي عن الوزن الذي ظل “وفياً” ومتزمتاً له حتى في قصائده التي كتبت بروح قصيدة النثر كانت بنيتها موزونة “تفعيلة” كما في هذه القصيدة.

“يقول السائق العصبيّ (لاحظوا حرص درويش الذكي على تأكيد هذه الصفة لدى السائق)

“ها نحن اقتربنا من محطتنا الأخيرة

فاستعدوا للنزول فيصرخون:

نريد ما بعد المحطة

فانطلق”

وهنا تتجلى مفارقة تعارض مشيئة الركاب مع مشيئة السائق. المجموع ضد الواحد المتحكم بهم والمُسيّر لهم.

أخيراً يأتي دور الشاعر الذي يأبى إلا أن يتمايز عن معظم ركاب الباص وينشق عليهم، رغم تأييده لهم، كما لو أنهم اختصار أو تكثيف مجازي لشموليات، من قبل “الجماهير” أو “ضمير الأمة”، أو “صوت الإجماع” المتشكل في الباص:

“أما أنا

فأقول انزلني هنا”.

يتمايز درويش اذن ويقرر بخلاف مشيئة البقية “انزلني هنا”، إنما دون أن يبدو خائناً لارادة ومشيئة معظم ركاب الباص وشركاء الرحلة،

فيقول:

“انا مثلهم

لا شيء يعجبني”

ويضيف مفسراً:

“ولكني تعبتُ من السفر”

الباص في هذه القصيدة، بمعناه الحرفي اليومي أو بمعناه الرمزي الإسقاطي، إنما هو وطن مصغر تتوافر فيه كل مقومات مجتمع متنوع. وان جملة “لا شيء يعجبني” هي امتياز جملة إجماع مثلها مثل أشهر جملة عربية “الشعب يريد إسقاط النظام” التي أطلقها أول الأمر على الأرجح فرد ما دون توقع ما ستؤول إليه ثم التف الناس والشعوب العربية حولها بالتدريج كلّ لأسبابه الخاصة.

ليس اعتباطاً إذن ولا مصادفة أن يتعمّد درويش أن يكون قائد الوطن المصغر (أو الباص) أي سائقه (أو رئيسه) متجهم وعصبي وساخط من كل ما يفصح عنه أو يطالب به شركاءه في الباص. الوطن المصغر الذي يلتقي فيه الشاب بالسيدة بالجامعي بالجندي بالشاعر.

لقد لخّص جميع أبطال القصيدة، باستثناء سائق الباص والمتحكم به، حياتهم في ثلاث كلمات تذمرية، موجزة وشاملة، هي ذاتها عنوان القصيدة وهي ذات الغاصّة في حلقي منذ أسابيع طويلة.

أنا أيضاً يا محمود درويش:

“لا شيء يعجبني”.

http://www.youtube.com/watch?feature=player_embedded&v=1Yvb1g71dgE

رند الاديمي

ما أمر مواعظ السعداء علي قلوب التعساء ..وما أقسي القوي حين يقف خطيبا بين الضعفاء

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com